مُقدمه:
من الطبيعي أن تكون القهور أو الأفعال القهرية Compulsions هي الجانب الأوضح من معاناة مريض الوسواس القهري مقارنة بوساوسه أو أحداثه العقلية التسلطية Obsessions ناهيك عن مشاعره فكلها أشياء لا يدركها إلا المريض بينما القهور عادة واضحة للعيان وهي كذلك السبب الأغلب لطلب العلاج من الأطباء النفسانيين لأنها بالنسبة للجميع السبب المباشر للتعارض مع حياة المريض وصولا إلى إعاقتها، وهناك نوعان من القهور هما الأكثر شيوعا والأكثر شهرة وهما لذلك أول أو ثاني ما يتدارك لذهن الناس عند ذكر مريض الوسواس، فالصورة النمطية للوسواس القهري عند كثيرين هي إما الغسيل المتكرر أو الشك والفحص المتكرر (التحقق القهري من مصادر الخطر -للذات و/أو للآخرين- بما فيها قلق الصحة)، وقد قدمنا عددا من المقالات السابقه عن وسواس التلوث والغسيل القهري... واختصارا نفصل الآن في شرح وسواس الشك التحقق القهري...
التفسير والدراسات:
رغم أن التحقق من الأشياء في حد ذاته هو سلوك طبيعي تمامًا (Muris et al., 1997)، إلا أنه يصبح تحققا مرضيا عندما يصبح الوقت المستهلك في الفحص أكثر من اللازم، أو إجراءات وشروط التحقق مرهقة، فهو هنا غالباً ما يؤدي إلى ضائقة كبيرة وتداخل مع الحياة اليومية (APA، 2000). والتحقق المرضي يكون مصحوبا بكثير من القلق والتوتر وفرط الانتباه وسلوكات التحاشي والشعور بالذنب والتردد فضلا عن التحيز المعرفي وتحيز الانتباه وقصور الذاكرة، أي أنه يختلف بوضوح عن سلوك التحقق الطبيعي، وهناك من الأبحاث والدراسات العلمية الغربية ما يشير إلى كون قهور التحقق هي الأكثر شيوعا بين قهور مرضى الوسواس إذ تتراوح نسبة وجودها بين الـ 50 والـ80% من بين أعراض المرضى وذلك حسب دراسات منعددة (Hakin et al., 2011) ، وإن كانت خبرتي الشخصية تشير إلى أن طقوس الغسيل ربما أكثر شيوعا في مجتمعاتنا من طقوس التحقق أو على الأقل تساويها، وهو ما يجد دعما في دراسة أحمد عكاشة (Okasha , 2004) حيث ظهرت قهور الغسيل في 63% من العينة مقارنة بـ 58% ظهرت فيهم قهور التحقق ..... ربما طغيان الأعراض الدينية وفيها الكثير من الغسل والغسيل على الأعراض عندنا هو السبب.
إذن فقهور التحقق/التفحص هي من أكثر أعراض الوسواس القهري شيوعا إن لم تكن الأكثر، وتتمثل في شكل أفعال فحص وإعادة فحص أو سؤال وتكرار السؤال يقصد منها التأكد من تمام فعل معين أو الاطمئنان إلى وضع أو أوضاع معينة تتسم عادة بالتأمين من الخطر أو الخطأ أو الحرام سواء تعلق ذلك بالذات أو الآخرين الذين يتحمل الشخص مسؤوليتهم من وجهة نظره، ورغم أن الصورة الشائعة لو.ش.ت.ق هي أن يشك الشخص في إغلاق باب البيت أو السيارة أو موقد الغاز أو وجود الرقم القومي أو جواز السفر ...إلخ .. إلا أننا سنجد أمثلة كثيرة فيما يلي لأعراض مرضى وسواس قهري تظهر قهورات التحقق فيهم ضمن أعراض ومواضيع مختلفة نوعا ما عن أعلاه لأنها مثلا تتعلق بالتحقق الباطني (الاستبطاني) Introspective Checking والذي يسمى في الأدبيات الغربية بالتحقق النفسي أو العقلي Mental Checking أي التفحص والتحقق من محتوى عقلي كالذاكرة أو النية مثلا لحدث أو قول أو فعل قديم أو بالتحقق من إحسان العمل لأهداف دينية أو خلقية ... عادة ما نجد أغلب هذه العروض السريرية تسمى بأسماء وساوسها لا قهورها ... فمثلا قهور التحقق من تمام الاستنجاء تسمى وساوس التطهر... وقهور التحقق من الحكم الشرعي لشيء ما تسمى وساوس الاستفتاء (أو طلب الفتوى) ... وكذلك قهور التحقق من سلامة غشاء البكارة تسمى وساوس البكارة، وقهور التحقق من عدم وقوع الطلاق تسمى وساوس الطلاق إلخ.... ورغم أن اهتمام المعالج المعرفي يكون عادة بالوساوس لتعليم الاستجابة لها بشكل مختلف، إلا أن بعض الحالات (كوسواس التطهر والاستفتاء وسلامة الغشاء والطلاق، وغيرها) تكون مواضيع الوسوسة فيها مستغرقة بحيث تأخذ انتباه المعالج بعيدا عن كونها في جوهرها وسواس شك وتحقق قهري...
ويشير راتشمان وهو أو من كتب مُخصصا مُفَصِلا عن التحقق القهري أنه يرتبط بالتشكك والتردد، لذلك فإنه يستغرق وقتًا طويلاً حتى يكتمل، إذ تحدث كل خطواته ببطء، وعادة يثير بعض المقاومة الداخلية كما يكون مصحوبًا بالتوتر و/أو القلق. وفعل التحقق في جوهره تنفيذ متكرر ومتعمد لعمل هادف لكنه غير عقلاني أي أنه في إطار السيطرة الطوعية للشخص، ولكن النازع الذي يدفعه لتنفيذ تلك الأفعال يمكن أن يصبح قوياً لدرجة أنه يتم تنفيذ النزعة للتحقق ضد الميول العقلانية للمرء، وتميل النزعة لأداء القهور –بشكل عام- إلى إثارة مقاومة ذاتية، لا سيما في التطور المبكر للاضطراب، ولكن تدريجيا يقع الشخص في فخ الاستسلام إلى تلك النزعة ويؤدي القهور (Rachman, 2002)، وفي حالة قهور التحقق يصبح التحقق بالتدريج طقسا نمطيا مركبا أو مبسطا لكن لابد من أدائه وكثيرا بعد غزو المحمول ما أصبح طقس التحقق يشمل تصوير المفتاح في الباب أو تصوير مفتاح الكهرباء العمومية مغلقا ...إلخ، وربما في ظروف معينة، يمكن أن تتأخر طقوس التحقق القهرية أو تمدد أو تؤجل أو حتى تقل أو يتم تنفيذها للشخص المصاب من قبل صديق أو قريب أي يمكن التحقق بالوكالة، وهذا نراه في كثير من الحالات التي يكتفي فيها المريض أحيانا بأن يقوم أحد الأبناء أو البنات بالتحقق بدلا منه.
أنواع التحقق القهري :
يمكن تصنيف التحقق إلى نوعين هما "التحقق الظاهر والتحقق الباطن" (المستتر) وبناء على مشاهداتنا الشخصية على مر سنوات عديده من العمل المتخصص مع مرضى الوسواس القهري تشخيصا وعلاجا أن أصنف قهور التحقق الظاهر (مرتبة طبقا لمعدل حدوثها) وقهور التحقق الباطن في المرضى العرب إلى:
أولا : التحقق القهري الظاهر:
1- قهور التحقق من فعل ديني
إذا استعرضنا الوساوس الدينية في المسلمين وهي كما اقترحنا تصنيفها من قبل تندرج تحت 3 مجموعات (هي •وساوس العبادات •والوساوس التعمقية أو وساوس العقيدة والكفر والإيمان •ووساوس المعاملات)... ويظهر لنا استعراض كل الوساوس الدينية أن وساوس الشك وقهور التحقق غالبا إن لم يكن دائما جزء من الصورة السريرية.... فمن وساوس العبادات نأخذ مثل وسواس الصلاة حيث تبدأ الحالة بالشك في صلاتها فعلت كذا أو لم تفعل أبطلتها أم لم تبطل ثم تبدأ في سؤال أحد أو كل المحيطين بها وربما تطلب منهم مراقبتها بتركيز أثناء الصلاة ثم بعد الصلاة تسألهم وغالبا تكرر السؤال، ثم عندما تعجز عن تحقيق ذلك تبدأ في تصوير نفسها فيديو أثناء الصلاة ... ثم تراجعه لتطمئن بعد الصلاة .... ثم بالتدريج تصبح محتاجة إلى مرتين مشاهدة للفيديو لتطمئن بعد كل صلاة من الخمس ! ويمكنك أن تستبدل لفظ الصلاة بلفظ الوضوء أو بلفظ الصيام.. إلخ.
ونأخذ من وساوس العقيدة والكفر والإيمان مثل الشك في هل أنا قلت لفظ الكفر أم الوسواس؟ والذي يستتبع محاولات تذكر للفظ وهي نوع من التحقق العقلي من خلال استبطان الإنسان لنفسه ليتأكد مما يتذكر... ورغم أن المرجو والمنتظر من التحقق هو الارتياح والاطمئنان والثقة إلا أن النتيجة دائما ما تكون تكرار محاولات ببساطة لأنه كلما كرر التحقق كلما قلت ثقته في ذاكرته ! وكأنما يفتح أبواب جديدة لوساوس الشك، وهذا الذي ذكرته ليس إلا أحد أشكال أو مراحل وسواس العقيدة والكفر والإيمان فبعدها أو معها تبدأ وساوس وقهور طلب الفتوى المتكرر ثم مقارنة الفتاوى ببعضها لأجل التحقق والاطمئنان حتى تسقط في نفس الفخ كلما استفتت أكثر قلت ثقتها في الفتاوى أكثر.
ومن وساوس المعاملات نجد مثلا مريض وسواس الطلاق الذي لا يترك عارفا بالدين إلا سأله، ثم ينشغل بمقارنة الردود فهذا تحقق قهري ظاهر، أو الذي يقضي ساعات يوميا يراجع ما حدث وهو يكلم زوجته (و/أو أصدقائه) مخافة لا أن يكون تلفظ لا بلفظة الطلاق فهو يتحاشاها ما استطاع .. لكن ربما حرف الطاء في كلمة وتأتي بعدها كلمة فيها لام وأخرى فيها حرف الطاء .. فتكون زوجته طالق ! هكذا يقنعه الوسواس وهو ليس فقط يشككه وإنما يغريه بمراجعة الحديث كحل للشك ولا يعود من مراجعاته إلا بالشك ربما أكثر مما بدأ ... ومراجعة ما حدث هنا واضحة الانتماء لقهور التحقق الاستبطاني أو العقلي.
2- قهور التحقق من حكم ديني أو خلقي:
عادة ما تأخذ شكل البحث أو السؤال المباشر أو غير المباشر وتتعلق عادة بالتدين والضمير اليقظ والتحقق هنا قد يأخذ شكل السؤال المتكرر استفتاءًا ثم مقارنة بين الفتاوى للتحقق، أو اعتذارا لآخر ثم تكرار طلب السماح (أو الاستسماح) ثم مقارنة الصور العقلية لاستجابات الطرف الآخر للاستسماح في أوقات مختلفة للتحقق من أنه سامح !.... أو شكل من يكرر تفحص وجوه المحيطين مرتين على الأقل -أو 3 إن استطاع- دائما للتأكد من أنه لا يزعج أحدا منهم... إلخ.
3- قهور التحقق لدرء الخطر:
مثلا التحقق المتكرر من إغلاق الأبواب والنوافذ ومفاتيح الكهرباء والأقفال الخارجية ومواقد الغاز والكهرباء والمكواة المنزلية ومن فصل المحمول عن الشاحن قبل النوم قريبا منه ...إلخ، أو التحقق المتكرر من سلامة أفراد أسرته، وربما الجيران وربما الأصدقاء....إلخ التحقق بتفحص الطريق الذي قاد سيارته فيه على الأقل مرة في الاتجاه المعاكس للتحقق من أنه لم يدهس أحد المشاة ... أو التحقق المتكرر من أنها لم تقتل ابنها الذي تركته نائما في مهده منذ دقائق.. ونستطيع إعطاء مئات الأمثلة عن قهور التحقق من سلامة غشاء البكارة بداية من السؤال المتكرر مرورا بالفحص الذاتي والفحص الطبي المتكرر...إلخ.
ثانيا : التحقق القهري الباطن:
ويقصد به التحقق من محتوى عقلي والذي يستطيعه الإنسان فقط بالاستبطان (النظر داخل النفس) وبالتالي يختلف عن التحقق الظاهر لأنه لا يشمل حركات أو أفعال ظاهرة مثلما لا يتعلق بالتحقق من أشياء أو أوضاع ظاهرة وإنما من ذكريات أو مشاعر باطنية أو "جوانية" في نفس الإنسان، إلا أن من المهم الانتباه إلى أن التحقق الباطن غالبا ما يصاحب حالات التحقق الظاهر فأكثر إن لم يكن كل من يسقطون في فخ قهور التحقق الظاهر يقارنون بين أدائهم ونتائج تحققهم في مرات التحقق المختلفة أو يتحققون من ذاكرتهم لآخر مرة تحقق كما أن بعضهم يقارن أدائه لطقس التحقق بصورة عقلية للتحقق كما يجب، والحقيقة أن الصعوبة التي يعانيها المريض بسبب لجوئه للتحقق الباطن مثلا من ذاكرته لما يشك في ما إن كان فعله أم لم يفعله أكبر بكثير من صعوبة التحقق الظاهر ليس فقط لأن ما يراد التحقق منه ظاهر هنا ومستتر أو باطن هناك، وإنما لأن لدى الموسوس صعوبة خاصة في استبطان أي مما يتعلق بموضوع وسواسه....
إذن نستطيع وصف نوعين كبيرين من التحقق الباطن أحدهما هو التحقق الباطن المرتبط بالظاهر والآخر هو التحقق الباطن النقي أو الخالص، وفي كلا النوعين تبدأ العملية بأن يشعرَ الوسواسُ المريضَ بأن عليه أن يتذكر حدثا أو موقفا أو فعلا ما في الماضي القريب أو البعيد كيف حدث أو كيف كان يشعر أثناءه أو ماذا كانت نيته ...إلخ ... فيفاجأ بأنه لا يتذكر جزئيا أـو كليا أو أنه يشك فيما يتذكر....... ببساطة لأن ثقته في ذاكرته غالبا تهتز بشدة أو تنعدم، فيعود يحاول التذكر أي تبدأ محاولات قهرية لإعادة التذكر ومحاولات الطمأنة الذاتية التي سرعان ما تتبعها وسوسة تشكك بمحتواها وتفاصيلها والثقة فيها... وهكذا.... وبينما يمكن أن نجد حالات قهور تحقق باطن أو مستتر دون أن تصحبها قهور ظاهرة فإن من الصعب عمليا أن تجد طقوس تحقق ظاهرة دون أن تصاحبها طقوس تحقق باطنة على الأقل من خلال الاستبطان للذاكرة الخاصة بطقس التحقق السابق.
ومن بين قهور التحقق الباطن المرتبط بالظاهر نجد قهور التحقق من التمام أي تمام الفعل أو اكتماله وهنا يجد الموسوس نفسه في فخ لا خلاص منه من الفعل وتكرار الفعل لأن الإحساس الذي يريد استشعاره ليستريح ويطمئن لا يصل إليه الموسوس، ويكون ذلك دافعا للتكرار، وسبب عدم وصول الموسوس لذلك الشعور هو ظاهرة عدم الشعور بالاكتمال Incompleteness أو العجز عن الشعور بالاكتمال وهو إحدى السمات المعرفية التي ارتبطت بمرضى الوسواس القهري وكان فقهاء المسلمين أول من وصفوها (أبو هندي وآخرون، 2017)، وسوف نشرح تلك الظاهرة في المقالات القادمة لأنها واحدة من أهم الأسباب وراء قهور التحقق وقهور التكرار بصفة عامة.
بنهاية المقال : سآلين الله عز وجل أن يشفي كلَّ من أصيب بهذا الإضطراب القَهْرِي...
ختامــــــــا:-
•نحنُ معكم دائماً حدثونا بأي وقت تريدون! ولن نخذلكم أبداً فنحن في خدمتكم علي مدار اليوم! نتمني للوطن العربي #نفسيه_سويه_دائمه
شكراً للجمــــــــيع ♥
Relax Group