مُقدمة:
لكلمة التردد في اللغة العربية معاني أوسع من معنى التردد المقصود في علم النفس، فتردد الأشخاص أو عدم حسميتهم وهو ما تعنيه كلمة indecisiveness في علم النفس أي الشخص الذي يتردد في قراراته أو خياراته.... هذا المعنى هو أحد معاني التردد في العربية، ففي القاموس العربي الغني (يَتَرَدَّدُ فِي أُمُورِهِ وَلاَ يَثْبُتُ عَلَى رَأْيٍ... ولاَ يَسْتَقِرُّ عَلَى رَأْيٍ هُوَ كَثِيرُ التَّرَدُّدِ التَّأَرْجُحُ وَعَدَمُ الثَّبَاتِ عَلَى رَأْيٍ مُعَيَّنٍ) وكذلك كما في قاموس المعاني الجامع (التردد في الكلام: تلعثم وتعثّر لسانُه...) وكذلك (التردُّدُ في الشيء : اشتبه فلم يُثْبِتْه) أي الشك والاشتباه، وهذه المعاني كلها ذات علاقة بالمعنى النفسي للتردد، بينما كلمة التردد في العربية تشمل إضافة إلى ذلك معنى التكرار مثلا التردد أي تكرار الموجات Frequency في علم الفيزياء والتردد أي المداومة على زيارة مكان أو شخص ما كالتردد على المكتبة أو دور العبادة Habituation أو ترددت قصته على الألسنة كما تستخدم أحيانا بمعنى ارتداد بمعنى التكرار Recurrence فيقال ترددت عليه نوبات المرض في الحالات الرديدة ويلاحظ أن المعاني العربية الأخرى كلها يمثل التكرار قاسما مشتركا فيها... وللتكرار علاقة بوسواس اللااكتمال التكرار القهري و.ل.ت.ق.
تعريف التردد:
التردد في علم النفس هو "الميل العام للشعور بصعوبة اتخاذ القرار" (Rassin, 2007) طبعا هذا ليس تعريفا متفقا عليه، كما عرفه آخرون بأنه "صعوبة معتادة في اتخاذ القرار في مجالات متعددة" (Germeijs, et al., 2006) بينما ركز البعض على الجانب السلوكي الظاهر فعرفوا التردد بأنه "عدم القدرة المتكرر على اتخاذ القرارات بشكل دقيق و/أو سريع و/أو فعال" (Barkley-Levenson & Fox, 2016) وبشكلِ عام هناك ثلاثة تصورات لما يمكن أن يؤدي إلى التردد هي الافتقار للمعلومات، مشاكل التقييم، والمخاوف من عدم اليقين في النتائج. وعادة ما يوصف الأشخاص بالتردد إما لسبب سلوكي ظاهر كتأخير اتخاذ القرار أو تغيير القرار بعد اتخاذه، أو تحاشي أو تأجيل اتخاذ القرار أو تفويض آخرين لاتخاذه، أو لسبب معرفي كالشعور بصعوبة اتخاذ القرار أو بعدم معرفة كيفية اتخاذ قرار ؟ أو الشعور بعدم التيقن اللازم لاتخاذ القرار أو لسبب انفعالي مثل تعبيرهم المفرط عن التوجس أو عن الندم بشأن القرار.... هذه هي أغلب الحالات التي تلخصها الصعوبة في تعريف راسِن.
وعملية اتخاذ القرار تشمل جمع المعلومات عن كل الخيارات المتاحة، ثم يقوم الإنسان بتقييم تلك المعلومات عقليا وانفعاليا وبناء على نتيجة التقييم يتخذ القرار الأنسب، وبالتالي فإن سبب المشكلة في الشخص المتردد قد يكون ضعف المتاح من المعلومات (بما يجعله خائفا من اتخاذ القرار) وقد يكون زيادة المتاح منها (بما يجعله أكثر حيرة تجاه القرار)... وقد يكون سبب التردد مشكلة في عملية التقييم نفسها إما حسابات خاطئة أو معايير تقييم عالية (كمالية، أو تعمق مرضي).. وقد يكون سبب التردد هو لا تحمل الشك "ل.ت.ش" كما في مرضى القلق والوسواس وغير ذلك بل وفي غير المرضى يمكن أن يسبب "ل.ت.ش" صعوبة شديدة في اتخاذ القرار لأي شخص يريد الوثوق 100% في عاقبة اختياره لأنه لا يتحمل الشك... كما قد يكون السبب هو الخوف من الشعور بالذنب بعد القرار الخطأ وقد أثبت ذلك حديثا (Chiang, & Purdon, 2018) حيث ارتبط الخوف من الشعور بالذنب بالحاجة إلى مزيد من المعلومات قبل اتخاذ القرار (ولكن ليس المزيد من الوقت)، كما ارتبط بتوقع صعوبة أكبر في اتخاذ القرارات، وانخفاض الثقة في اتخاذ القرارات الصحيحة، وانخفاض الرضا عن القرارات (وكلها سمات تميز مرضى الوسواس القهري) وبالتالي، قد يكون الخوف من الذنب عاملاً هاما في التردد مثلما هو مهم في مرضى الوسواس القهري.
لكن التردد المرضي يلعب دورًا في العديد من الاضطرابات النفسية من غير الطيف الوسواسي، فهو يعد أحد السمات المميزة للاكتئاب والقلق المتعمم بالإضافة إلى اضطراب الشخصية الاعتمادية Dependent Personality Disorder، وفقًا للتصنيف الأمريكي الرابع المراجع (APA, 2000) لكن على الرغم من السمة التعريفية المفترضة للتردد لكل من الاكتئاب والقلق واضطراب الشخصية الاعتمادية، فإن هناك القليل من الأدبيات حول كيفية ارتباط هذا المفهوم بالسمات الأخرى لهذه الاضطرابات (Rassin, 2007). بينما هناك اهتمام يتزايد في السنوات الأخيرة بارتباط مفهوم التردد بالأعراض الوسواسية، ونحن معنيون في موضوعنا هنا بشرح تلك العلاقة، إذ يعاني مرضى اضطراب الوسواس القهري من التردد والحذر المفرط في اتخاذ القرارات، ويعتبر التردد والشك من الأنماط المعرفية المعروفة لاضطرابات طيف الوسواس القهري بشكل عام ويتكرران في شكاوى المرضى كأعراض إكلينيكية، واضطراب الوسواس القهري معروف تقليديا بأنه اضطراب الشك والتردد، وبأنه حالة من التردد المرضي بل اعتبر الباحثان ساخدف وملحي سنة 2005 أن اضطراب الوسواس القهري اضطرابا في اتخاذ القرار (Sachdev & Malhi ، 2005) ورغم ذلك لا يُعرف سوى القليل عن الآليات المعرفية التي تحرك هذه السلوكيات عبر الطيف القهري، كذلك ورغم أن التردد هو أحد الأبعاد في مقاييس الوسواس القهري. إلا أنه ليس من المعايير التشخيصية للوسواس القهري في الدليل التشخيصي والإحصائي الأمريكي الخامس للاضطرابات العقلية (APA, 2016)، ولا يتم التأكيد عليه بشكل جيد في النماذج السلوكية المعرفية لاضطراب الوسواس القهري.
وفي الآونة الأخيرة، أصبح ينظر لسلوك التردد على أنه يظهر من خلال بعدين متميزين، التردد الكرهي Aversive Indecisiveness والتردد التجنبي Avoidant Indecisiveness إذ يتمثل التردد الكرهي في توقع النتائج السلبية نتيجة اتخاذ القرار، ويرتبط بالتثبيط السلوكي والندم المتوقع بشأن اختيارات القرار. ويتمثل التردد التجنبي في تفضيل تأخير وتجنب اتخاذ القرار، ولو على حساب عدم الحصول على التعزيز.، وفي دراسة أمريكية حديثة (Lauderdale et al., 2019) كان التردد الكرهي يرتبط وينبئ بشكل فريد بالعصابية، ولا تحمل الشك "ل.ت.ش"، والقلق، والاكتئاب، وفرط الوعي الذاتي، والتوجس، وتناقص المرونة المعرفية، وأشكال متعددة من التجنب مقارنة بالتردد التجنبي. وتشير هذه النتائج إلى أن توقع النتائج السلبية الناتجة عن خيارات اتخاذ القرار أكثر أهمية لاضطرابات القلق والاكتئاب من تفضيل تأخير اتخاذ القرار وتجنبه...... وإن كان كلا النوعين يظهر في مرضى الوسواس القهري. لكن مرضى و.ل.ت.ق أكثر شهرة بالتردد التجنبي. الناتج عن الكمالية والمصاحب للتسويف.
ربما يبدو التردد كسمة معاكسا للاندفاعية كسمة فبينما يؤدي التردد إلى البطء الشديد أو العجز عن اتخاذ القرار بسبب الكمالية أو الخوف من النتائج تؤدي الاندفاعية إلى سرعة اتخاذ القرارات ثم الندم غالبا بعد ذلك، إلا أن التعمق في دراسة كل من السمتين يظهر أن العلاقة بينهما أكثر تعقيدا مما يبدو، إذ يرتبط التردد إيجابيا بالاندفاعية المعيقة Dysfunctional Impulsivity وسلبا بالاندفاعية المفيدة Functional Impulsivity كما يرتبط التردد بشكل إيجابي وقوي بشكل خاص بالعجلة الاندفاعية (الاستعجال الاندفاعي) Impulsive Urgency ونقص الصبر والمثابرة Lack of Perseverance ، ولكن ليس بالبحث الاندفاعي عن المتع الحسية Impulsive Sensation-Seeking أو الافتقار إلى سبق الإصرار Lack of Premeditation. كما ترتبط بعض أشكال التردد الناتجة عن كمالية المعايير أو مثالية القيم سلبيا مع الاندفاعية، ويمكننا أن نستنتج من ذلك أن التردد والاندفاع قد يمثلان قطبين متقابلين لمتصل صنع القرار أحادي البعد، مع وقوع الحسم في منتصف المتصل بين قطبي التردد والاندفاعية. يوفر التنظيم الذاتي للمشاعر أو التحكم المعرفي آلية محتملة لإنتاج هذه الصفات المتعارضة: فيمكن أن ينتج التردد عن التحكم المعرفي المفرط، بينما ينتج الاندفاع عن نقص التحكم المعرفي (Barkley-Levenson & Fox, 2016). التردد والأعراض الوسواسية القهرية:
رغم قدم الارتباط بين التردد والأعراض الوسواسية وشيوع وصف التردد القهري، ووضوح أن المعرفة أو الأدلة الحسية التي تسمح بشكل مناسب لمعظم الأفراد بالوصول إلى قرار سريع هي ببساطة لا تعمل بالشكل المطلوب في مرضى اضطرابات الطيف الوسواسي وتصل ذروة عجزها في اضطراب الوسواس القهري، ففيه يقف المريض عاجزا عن اتخاذ القرار "بالكفِّ عن التحقق أو التكرار أو العد أو الغسل أو إنهاء الاجترار بشأن إيجابيات وسلبيات فكرة أو موقف؟"، رغم ذلك فإن قليلا من الدراسات اهتمت بدراسة التردد في مرضى الطيف الوسواسي ربما حتى اقترح ساخدف وملحي (2005) اعتبار الوسواس القهري اضطرابا في اتخاذ القرار.... وذلك بناء على نتائج دراسات البيولوجيا العصبية المدعمة بآليات التصوير الوظيفي للمخ والتي بدأت في فهم الأساس العلمي العصبي لاتخاذ القرار في الحيوانات والبشر، وربما يمكن تطبيق هذه المعرفة بشكل مفيد على اضطراب الوسواس القهري دراسة وعلاجا.
المفاجأة في نتائج تلك الدراسات أن الدوائر العصبية المسؤولة عن اتخاذ القرارات تتداخل تماما مع تلك المعروف اعتلالها في مرضى الوسواس القهري وبشكل أكثر تحديدًا، سلط ساخدف وملحي (2005) الضوء على التداخل الكبير بين الدوائر العصبية المطلوبة للأداء المعرفي لاتخاذ القرار، والدوائر العصبية المتورطة في الوسواس القهري. على وجه التحديد، تسهل المكونات الموجودة داخل قشرة الفص الجبهي Prefrontal Cortex بما في ذلك القشرة الجبهية المدارية (الحجاجية) Orbitofrontal Cortex والقشرة الحزامية الأمامية Anterior Cingulate Cortex عملية اتخاذ القرار ومعالجة المعلومات والتقييمات؛ تميل هذه المكونات إلى إظهار النشاط المفرط لدى المصابين بالوسواس القهري وهذه المناطق ليست مستقلة بذاتها، لكنها ترتبط بأنظمة فرعية عصبية متعددة لكل منها وظيفته المختلفة (مثلا الانفعالات والذكريات) وتتفاعل مع بعضها البعض بما يؤثر على عملية معالجة المعلومات اللازمة لاتخاذ القرار.
ومن المعروف أن مريض الوسواس القهري منخفض الثقة في حالاته الداخلية أو دواخله، وأحد نتائج انخفاض هذه الثقة المعرفية الشعورية تجاه الدواخل هو التردد القهري، كما يظهر في وقت أطول لاتخاذ القرار وعن طريق زيادة البحث عن المعلومات، وتفاعلا مع عيوب معرفية كالكمالية والتفكير القطبي ول.ت.ش يمكن أن تشمل القهور تكرار محاولات التفكير للوصول إلى القرار، وربما تحاشي ذلك (التأجيل والتسويف) .. وربما تكرار محاولات التفكير في القرار حتى عدد معين أو حتى توافق ذلك مع تخيل صورة عقلية مطمئنة .. إلخ.
دوائر المخ العصبية لاتخاذ القرار:
وفقًا لساخديف وملحي (2005) وقد بنيا تصورهما التالي على نتائج دراسات البيولوجيا العصبية المدعمة بآليات التصوير الوظيفي للمخ تشمل دورة اتخاذ القرار الطبيعية مناطق المخ التالية:
قشرة المخ الجبهية الظهرية الوحشية "ق.ج.ظو DLPFC" Dorsolateral Prefrontal Cortex والتي تحمل ذاكرة العمل** Working Memory (وذاكرة العمل تلزم لاختزان المعلومات ومعالجة الاختيارات معرفيا وعاطفيا في لحظة اتخاذ القرار)، وهي أيضًا المنطقة القشرية التي يتم فيها التعمد بشأن الأفعال أو القرارات.
القشرة الجبهية الحجاجية "ق.ج.ح OFC" Orbitofrontal Cortex والتي توفر مدخلات إلى قشرة المخ الجبهية الظهرية الوحشية "ق.ج.ظو" حول الخيارات العاطفية أي الانفعالات وهو ما يترجم إلى أن اتخاذ القرار يتأثر بانفعالات الفرد وليس عملية عقلية بحتة.
تراقب القشرة الحزامية الأمامية Anterior Cingulate Cortex الاختيار، وربما تؤثر في تحيزه وتنشط خاصة عندما تنشئ عملية اتخاذ القرار صراعا لدى الإنسان كوجود نتائج محتملة عديدة ومتباينة للقرار، وتنشط كذلك عند العجز عن الوصول إلى اليقين بشأن القرار مثلما في المتسمين بلا تحمل الشك "ل.ت.ش".
تختص اللوزة Amygdala بنقل المدخلات الانفعالية إلى القشرة الجبهية الحجاجية "ق.ج.ح" كما يتم تضمين النوى القاعدية BasalGanglia بشكل خاص إذا تمت مكافأة التغيير السلوكي.
الحلقة العصبية المفترضة لاضطراب الوسواس القهري، ولغيره من اضطرابات الطيف الوسواسي نجدها تشمل بعض أجزاء قشرة الفص الأمامي للمخ كالقشرة الحجاجية والحزامية Orbito-Frontal and Cingulate Cortex والتي تستثيرُ أجزاءً من النوى القاعدية هي "النواة المذيلة Caudate Nucleus والكرة الشاحبة Globus Pallidus" وهو ما يشترك مع حلقة اتخاذ القرار في كل من القشرة الحجاجية (المدارية) والقشرة الحزامية والنوى القاعدية ولذلك نجد في اضطراب الوسواس القهري وغيره من اضطرابات طيف الوسواس، أن اتخاذ بعض القرارات يمثل عبءً انفعاليا غير طبيعي، بسبب النشاط غير الطبيعي في القشرة الأمامية المدارية أو الحجاجية، والذي يؤدي إلى تنشيط غير طبيعي للقشرة الحزامية الأمامية ويمنع الفرد من اتخاذ قرار سريع أو آلي. وينتهي الأمر بالفرد في حلقة مفرغة حيث يزيد القلق بشأن اتخاذ القرار من تنشيط القشرة الحجاجية الأمامية بما يجعل اتخاذ القرار أصعب بشكل متزايد.
وأما القشرة الظهرية الوحشية الجبهية فلها دور في الوظيفة التنفيذية التي تنهي القهور أو الأفعال القهرية وهي عملية تبدأ باتخاذ القرار وتستمر بالإصرار عليه (أي عدم التردد). كذلك فإن القشرة الحزامية الأمامية مهمة في إحداث الشعور بانغلاق الموضوع الفكري أو الفعلي لاتخاذ قرار الإغلاق في حالات الشك أو "ل.ت.ش" أو الصراع بين البدائل وهو ما يذكرنا بشعور اللااكتمال والتي يمكن أن تفهم كلها في إطار عدم الشعور بالانغلاق إما لعدم الصحة أو عدم الاكتمال، وبالتالي ليس مصادفة أن الخلل الوظيفي في الدوائر الحجاجية الجبهية- المخططية- المهادية Orbitofronto-Striato-Thalamic Circuits هو المثبتة مسؤوليته في اضطراب الوسواس القهري، لأن هذه المناطق تلعب دورًا رئيسيًا في اتخاذ القرار، وقد بينت دراسة إسرائيلية على عينة من الطلاب وجود ارتباط قوي وواضح بين الميول والسمات الوسواسية وبين التردد العام والاعتماد على التغذية الراجعة الخارجية لمعرفة الحالات الداخلية، (Heekeren et al., 2008)، وبالتالي مبرر أن يُقترح اعتبار الوسواس القهري اضطرابا في اتخاذ القرار..... نظرا لوجوده كسمة في كل مرضى اضطرابات الطيف الوسواسي وفي العينات من غير المرضى إذا كانت لديهم صفات أو قناعات وسواسية تحت مرضية أو تحت إكلينيكية.
علاقة التردد بالاجترار الفكري:
الاجترار Rumination هو "تفكير متكرر وطويل ورديد عن الذات وعن مخاوف المرء وتجاربه" (Watkins, 2008). وهو بمثابة عملية ذهنية مشتركة يمر بها الجميع لأنه ببساطة يعكس محاولة تقليل التناقضات بين الحالة الحالية والأهداف أو التوقعات المرجوة للشخص، وقد وصف واتكينز وزملاؤه نوعين من الاجترار هما الاجترار التحليلي التجريدي Abstract-Analytical Rumination والاجترار التجريبي الملموس Concrete-Experiential Rumination وفي النوع الأول يركز الأفراد على أسباب ومعاني أعلى مستوى للتجربة. تتركز أفكارهم حول أسئلة مثل "ماذا يعني هذا لحياتي؟"، "لماذا أتفاعل دائمًا بهذه الطريقة؟". على النقيض من ذلك، وفي النوع الثاني يركز الأفراد على المستوى الأدنى والتفاصيل المحددة وردود الفعل العاطفية. فيميلون إلى أفكار مثل "كيف حدث هذا؟"، "كيف يمكنني التدخل لإصلاح هذه المشكلة؟"، و"ما هي مشاعري هنا والآن؟"، ويعتبر النوع الأول أكثر تسببا في إعاقة اتخاذ القرار من النوع الثاني إذ يتطلب صنع القرار تمثيلات مفصلة ومحددة لما يجب القيام به، وتركيزًا واضحًا على البدائل المتاحة والإجراءات التي يتعين اتخاذها. وهو ما يركز عليه أسلوب الاجترار التجريبي الملموس بشكل مباشر، بينما أسلوب الاجترار التحليلي التجريدي لا يفعل ذلك، لذلك افترضت مجموعة شينا (Schiena, et al., 2013) أن أسلوب الاجترار التحليلي التجريدي سيؤدي إلى مزيد من التردد، مقارنة بأسلوب الاجترار التجريبي الملموس، كذلك يمكننا الحديث عن نوعين آخرين من الاجترار أحدهما هو الاجترار قبل القرار والآخر هو الاجترار بعد القرار، وبينما يمكن أن يكون الأول معيقا بشكل مباشر لعملية اتخاذ القرار لأنه يتعلق بعملية الاختيار نفسها فإن الثاني يتعلق بالتوجس والتخوف والندم بعد انتهاء عملية الاختيار.
علاقة التردد المرضي باضطراب الشخصية القهرية:
وأما عن علاقة التردد المرضي باضطراب الشخصية القسرية (الوسواسية القهرية) فلها قصة إذ اعتبر التردد واحدا من السمات التشخيصية لهذا النوع من اضطرابات الشخصية في التصنيف الأمريكي الثالث ونسخته المراجعة ثم تقرر التخلي عنه منذ التصنيف الرابع استنادا لنتائج دراسات أظهرت وجود التردد في العديد من اضطرابات الشخصية الأخرى كاضطراب الشخصية الاعتمادية Dependent واضطراب الشخصية الزورانية Paranoid والتجنبية Avoidant والفصامية النوع Schizotypal ... رغم أن نتائج دراسة حديثة (Riddle, et al., 2016) تظهر عدم موضوعية إسقاط التردد من المعايير التشخيصية لاضطراب الشخصية القسرية، استنادا إلى إدلة من 4 مصادر هي تحليل العوامل، والارتباطات الإكلينيكية، والارتباطات بين الأشقاء، والارتباط الجيني إذ تشير الأدلة إلى أن التردد هو أحد عاملين ينتجهما التحليل العاملي الاستكشافي لأعراض مرضى الشخصية القسرية وذويهم، هما عامل النظام/السيطرة Order/Control (الكمالية، التفاني المفرط في العمل، الضمير المفرط، الإحجام عن التفويض، والصلابة)؛ وعامل الاكتناز/التردد Hoarding/Indecision (عدم القدرة على التخلص من الأشياء القديمة غير اللازمة، والتردد). وارتبطت درجة العامل الأول بضعف الاستبصار، بينما ارتبطت درجة عامل الاكتناز/التردد بعدم اكتمال المهمة أي بمشاعر اللااكتمال، وبينما الاكتناز ما يزال سمة جوهرية في معايير تشخيص اضطراب الشخصية القسرية فإن التردد المرتبط به قد أهمل، وقد وجدت دراسة سكانية ارتباطًا بين الاكتناز والتردد (Timpano, et al., 2011) لكن من الإنصاف الإشارة إلى أن التردد يحتل المركز الأول في مجموعة من ستة "ميزات مشتركة أخرى" في تشخيص اضطراب الشخصية القسرية في النسخة الخامسة من التصنيف الأمريكي (APA, 2013) ... أي أن من المحتمل ظهوره مرة أخرى في النسخ القادمة من المعايير التشخيصية لاضطراب الشخصية القسرية... وهو ما يتوافق مع موروث طويل من الملاحظات الإكلينيكية، وعلى كل حال قد تكون مسألة وضع التردد الوسواسي كمعيار تشخيص يتناسب بشكل أفضل مع اضطراب الوسواس القهري أو في أي مكان آخر نقاشًا لم يغلق بعد.
العلاجات المقدمه لوسواس التكرار القهري:
(أ) التثقيف النفسي:
حول الوسواس القهري والنموذج السلوكي المعرفي للانفعالات أو النموذج الثلاثي أفكار انفعالات سلوك، جنبًا إلى جنب مع التحليل الوظيفي لفهم العلاقة الدقيقة بين المحفزات والأفكار والانفعالات والاستجابات السلوكية بشكل أفضل، وخلال هذه المرحلة يتم التركيز بشكل كبير على مساعدة المريض على استيعاب نموذج العلاج من خلال تطبيق كل مكون من مكوناته على الأعراض الخاصة به. ويجب أن يكون الهدف من التعرض ومنع الاستجابة في علاج و.ل.ت.ق هو مساعدة الفرد على اعتياد مشاعر الانزعاج الحسي الانفعالي Sensory-Affective Discomfort من أجل تقليل قوة هذه المشاعر على توجيه السلوك، كما يقوم المريض خلال هذه المرحلة بمراقبة سلوكياته ومشاعره وتسجيلها من أجل إعداد قائمة السلوكيات المطلوب تغيييرها .
من المهم خلال هذه المرحلة كذلك أن يتم تقييم مشاعر اللااكتمال وذلك من خلال التقييم الشخصي فبما أن اللاكتمال أو إ.ل.ص.ت هي تجارب حسية فيجب أن يُسأل المريض مباشرةً عن موضع الانزعاج أو عدم الراحة أين وكيف يشعر به عندما يكون غير قادر على أداء القهور. وهناك مقاييس التقييم بالتقرير الذاتي ومقاييس التقييم التي يطبقها المعالج وأحدثها مقياس براون للااكتمال (Boisseaua, et al., 2018)، كما يمكن التقييم من خلال اختبارات سلوك التحاشي Behavior Avoidance Tests والتي طورها المعالجون لتقييم درجة التحاشي (التجنب) التي قد تنتجها المحفزات. وفي حالات و.ل.ت.ق يكون الدافع وراء التحاشي هو غياب سلوك إضافي يكمل المهمة المطلوبة. لذا يحتاج الطبيب إلى بناء المواقف التي "يبدأها" العميل ثم يُطلب منه تركها غير مكتملة، مع تقييم مشاعر الضيق أو عدم الراحة بعد كل حالة بطريقة وحدات الضيق الشخصاني (و.ض.ش 0 - 100)، ويمكن أن تكون الاختبارات عامة جدًا مثل ترك الدرج مغلقًا جزئيًا، أو خاصة جدًا بالعميل.
ولأن مشاعر اللااكتمال في مريض الوسواس غالبًا ما تكون طويلة الأمد وكثيرا ما تكون القهور المصاحبة منسجمة مع الأنا. فمن المتوقع وجود مشاعر متناقضة لدى المريض فيما يتعلق بالعملية العلاجية كما يمكن أن نجد تذببا في الدافع للتغيير على الأقل في بداية العلاج، لذلك من المهم أن توضع هذه المشاعر المتناقضة في إطار أنها نتيجة مفهومة للتخوف من التغيير ومدة وقوة الوسواس القهري. ومن المفيد تصحيح تصور الفرد حول الهدف من العلاج من خلال الإشارة إلى الفرق بين الاضطرار إلى القيام بسلوك ما واختيار القيام به. إضافة إلى زيادة وعي المريض بالكلفة الواقعية للأعراض، مثل تأثيرها السلبي على العلاقات والمزاج والتوظيف والخطط المستقبلية (Summerfeldt, 2004). ومن المهم بنهاية هذه المرحلة أن يتم بنجاح إعداد هرمية التعرض التدريجي، كما تشرح للمريض فكرة وحدات الضيق الشخصي أو الذاتي (و.ض.ش) بين صفر و100 ويتم تدريبه عليها .... وكذا يتم تدريب المريض على مراقبة أفكاره ومشاعره وسلوكه اليومي مع الانتباه إلى أن أهمية الإفصاح عن الوساوس المستأنسة لا تقل عن أهمية الإفصاح عن تلك المستوحشة بالنسبة للمريض، ومن المهم كذلك أن تكون الخصائص المعرفية للحالة باتت واضحة لدى المعالج.
(ب) التعرض ومنع الاستجابة:
والتي تشمل التعرض الواقعي و/أو التخيلي لمحفزات اللااكتمال و/أو إ.ل.ص.ت، مع الامتناع عن أداء قهور التكرار أو العد أو التنسيق أو التحقق أو الغسيل..... إلخ. وعادة ما يكون التعرض التخيلي مرحلة يراها المريض أقل صعوبة فضلا عن أنها تشجعه على التعرض الواقعي مع عدم القيام بالقهور بعد النجاح في التعرض التخيلي، وبعد تجارب المريض الأولى الناجحة في التعرض (حتى حدوث انخفاض مرضٍ لوحدات الضيق الشخصاني و.ض.ش في غضون 60-90 دقيقة) من المهم أن نشجع المريض إلى جانب مهام التعرض المتفق عليها حسب الهرمية على القيام بالتعرض الذاتي لمواقف أخرى غير مخطط لها يُعتقد أن لها قيمة مماثلة في إحداث عدم الراحة ومشاعر اللااكتمال، كما ينبه إلى التفكير في الت.م.ا كتغيير في نمط الحياة، بدلاً من استراتيجية خاصة بالموقف العلاجي الحالي. وأن يعرف المريض أنه كل أسبوع سيواصل القيام بالتعرض للعناصر السابقة مع إضافة العناصر الجديدة، ومن المفيد كذلك في علاج و.ل.ت.ق إعداد المخططات "اليومية"، حيث يقوم المريض بمراقبة و.ض.ش على فترات كل ساعة أثناء الانخراط في التعرض كجزء من الأنشطة اليومية، وبدلا من ممارسة ما اعتاد من قهور أو طقوس فإنه سيعتاد الفوضى والتغيير والعشوائية.... حتى أنني كنت أتفكه مع بعض المرضى قائلا : يعني اجعل شعارك في الحياة "اللهم أدمها فوضى واحفظها من النظام" !
ولابد عند التخطيط للعلاج الانتباه إلى جوانب القهور التي يجب منعها. وهذا مهم بشكل خاص في حالات و.ل.ت.ق حيث قد يكون لمعظم الأنشطة اليومية صفة قهرية، ففي هذه الحالات ذات البداية المبكرة غالبا في الطفولة غالبًا ما تنضج القهور إلى أشكال طقسية متقنة ودقيقة ويمكن أن تشمل (1) البطء الوسواسي في سلوك معين (مثلا في قراءة مستند حيبث تجب القراءة بطرقة معينة أو لعدد محدد من المرات دون خطأ مثلا، ترتيب السرير بطريقة معينة...إلخ) ؛ (2) البطء الوسواسي في سلسلة من السلوكيات؛ ويتطلب مصدر البطء (مثلا الفحص للتحقق، المراجعة العقلية، التكرار، أو الأداء الدقيق لكل مكون) مزيدًا من التحليل؛ و(3) طقوس تكرار سلوك فردي واحد أو التسلسل الشعائري لسلوكيات متعددة... وفي أغلب الحالات نجد القهور متداخلة بشكل كبير مع كل ما يمارسه المريض من أنشطة، وهو ما يعني وجوب المرونة من جانب المعالج وربما المرور بمرحلة من المنع الجزئي للطقوس أو اختصارها أو تأخيرها لمدد متزايدة بالتدريج، ولابد هنا من تعاون المريض والحفاظ على مستوى دافعية مناسب لاستمرار العمل.... والحذر من الوقوع في ما نسميه فخ التحسن الجزئي! فمما لا شك فيه أن المنع الجزئي للطقوس سيشعر المريض وأهله بالتحسن مقارنة بحاله السابق للعلاج لكن من المهم أن ينبه المعالج إلى كون هذا النوع من التحسن نادر إن لم يكن مستحيل الاستمرار، وأنه يجب أن لا يعتبر أكثر من مرحلة من مراحل العلاج التدريجي والهادف إلى التحرر من كل السلوكيات القهرية.
(ج) مجموعة من التقنيات المعرفية المختلفة:
وتعتمد هذه التقنيات على القناعات المطلوب العمل عليها من أجل تخفيف حدتها أوتغييرها، وأهم القناعات في مرضى و.ل.ت.ق هي الكمالية المرضية Pathological Perfectionism، والتردد المرضي ولا تحمل الشك (ل.ت.ش)، وسنكتب مقالات خاصة بمناجزة كل منها، ولا يجب إغفال التأويلات المعرفية الشخصية لمعنى وتأثير مشاعر اللااكتمال وإ.ل.ص.ت كما يراها كل مريض والعمل عليها، لأن ذلك يساعده كثيرا على قبول وإحداث التغيير.
(د) منع الانتكاس:
في هذه المرحلة الأخيرة عادة ما يُشرح للمريض كيف أن العلاج عن طريق التعرُّض ومنع الاستجابة يعدِّل العادات الوسواسية القهرية، ويقلل من أعراض الوسواس القهري المزعجة له، لكن ورغم من ذلك النجاح فالأعراض لا تذهب بعيدًا تمامًا وإلى الأبد، فهو في المواقف العصيبة والكرب بشكل عام قد يواجه زيادة في القلق ونزوات أو نزعات Urges للتصرُّف بطريقته القديمة؛ أي القهرية، كما نشرح رؤيتنا كيف أن الأفعال القهرية المزمنة تصبح بالتدريج إدمانية التأثير على المريض؛ لأنه يبدأ في استخدامها للتعامل مع الضيق والتوتر، بما يعني أن الأمر كعلاج المدمن يحتاج صبرًا وإصرارًا وتوقُّعًا للهفوات والكبوات، بل الأمر في الإدمان السلوكي أصعب، وهذا الكلام العام في ع.س.م الوسواس القهري مهم جدا أن نعمق فهمه لمريض و.ل.ت.ق لأنه الأكثر عرضة للانتكاس إذا لم يفهم جيدا الخلفية الحسية الانفعالية لأعراضه مثل (إ.ل.ص.ت)، ولأنه من أشد وأطول أنواع مرضى الوسواس القهري معاناة مع قهور التكرار سعيا للاكتمال وأكثرهم قابلية لإدمان القهور .... وغالبا ما يحتاج المريض إرشادات لاستخدامها في السلوك "الطبيعي" دون قهور ؟ أي كيف يغسل يديه وكيف يستنجي وكيف يغتسل وكيف يتوضأ !!.. كثيرا ما يقول المريض أثناء العلاج "نسيت كيف كنت أغسل أو أتطهر قبل المرض" ما هي الطريقة الصحيحة ؟
وكما يحدث تقليديا في ع.س.م الوسواس القهري يُطلب من المريض تحديد الكرب أو الكروب الممكنة أو حالات الخطر التي قد تسبِّب له أو لها الانتكاسة بشكل شخصي، ويساعد المعالج المريض في وضع قائمة من الحالات التي يُحتمل أن تسبِّب إشكالية تؤدي إلى الكرب (على سبيل المثال مواقف محددة، كالوقوف في طابور منحني، أو الصلاة إماما)، ثم تقدَّم الكبوات والانتكاسات كردود أفعال طبيعية -وربما مدمنة- للقلق الذي يستثيره الكرب أو تحفِّزه الأحداث الطارئة، ومن المفيد اعتبارها فرصة لتعلم مهارة التعامل مع الوساوس واستخدام المهارة ذاتيًّا في الحياة اليومية.
بنهاية الموضوع : سآلين الله عز وجل أن يشفي كلَّ من أصيب بهذا الإضطراب القَهْرِي...
ختامــــــــا:-
•نحنُ معكم دائماً حدثونا بأي وقت تريدون! ولن نخذلكم أبداً فنحن في خدمتكم علي مدار اليوم! نتمني للوطن العربي #نفسيه_سويه_دائمه
شكراً للجمــــــــيع ♥
Relax Group